الدفة والمجداف
الجزء الأول ..
لو كنت مسافرا من شمال السودان الشقيق الى جنوب مصر الحبيب على متن مركبة شراعية تجد مايسر النفس والخاطر ..
تغوص بنفسك فى اغوار طبيعة خلابة وكأنك تطفو على الهواء ..
تنسى همومك وهموم الدنيا كلها ..
شمس مشرق وبديع ينعكس انكسارها على هذا النهر البديع نهر النيل الخالد .
تسمع اصوات الطيور و زقزقة العصافير بأصواتها البديعة والمختلفة ..
لكلا من الطيورالمحلية او المهاجرة ..
التى اتت الى المكان وكأنهم مصطافون يعزفون سيمفونية منظمة دون نشاز ..
و كأن بينهم قائد اوركسترا عالمى يجيد قراءة النوت الموسيقية , و من الغريب أن بامكانك ان تميز اصواتها ان كانت محلية اومهاجرة.
وانت مبحرا الى الشمال حيث الريس (سمبو) يفرد الشراع , يستعد للابحار فى جو هادىء بنسماته الفواحة و رائحة اشجار الحنه الفواحه و رائحة اشجار السنط الطبيعية , تشعر وكأنك ملأت صدرك ..
ويقولون فى الامثلة السودانية (اللى عنده قرض ما عنده مرض) ..
والقرض بذور اشجار السنط يستعمل لدبغ الجلود ويدخل فى كثير من الادويه الطبية.
و تبحر المركبة و تشق النيل وكأنها فرخا من الورق المقوى ..
تسمع خرير الماء مع أصوات السواقى و حركة الشواديف على شط النيل , و لكل ساقية صوتها المميز تعرف بأنها ساقية فلان .
و على مد البصر ترى صفوف النخيل بانتظام شامخة رافعة رؤوسها كأهل بلادها , وكأنها عسكر فى الجهادية لا تأبه من حرارة الصيف وبرد الشتاء , حتى زعابيب امشير , ناهيك عن اشجار الفواكة طارحة ثمارها بانواعها المختلفة و الوانها البديعة , و كلما تحركنا الى الشمال ترى كثبان من الرمال الصفراء الجميلة التى عليها اثار الرياح وكانها بساط مرسوم فى الارض بريشة فنان عبقرى وموهوب وتجد الجبال الشا مخة و عليها نقوش من الدهر , تحمل على ظهرها طيات الزمن البعيد والجبال والرمال تكون الفاصل الطبيعى بين القرية والقرية الاخرى .
بين الحقول الخضراء والاشجار المثمرة و صفوف النخيل المنتظمة ترى الفلاح النوبى بسحنته السمراء البسيطة التى اكتسبها من لون الطبيعة من جبال تميل الى السواد و رمال صفراء و طمى النيل الحنين , و هذا الخليط اكسبه اللون النحاسى والانف العادى ينفرد به اهل النوبة سواء فى الشمال او الجنوب , وعلى شط النيل بجلاليب ناصعة البياض وعمامتهم المميزة و الذى ينفرد بها كل شخص على حده ..
و اما الشباب تراهم يكدون فى الارض , يلبسون العراريق والسراويل الزرقاء ويسمى (صافين قميص) و هذا اللون يتحمل المشقة فى العمل الدئوب .
وفى العصر الحديث استعمل هذا اللون الامريكان (الكاوبوى ) و سمى بالجينز الامريكى ..
و أول من عملوا به هم النوبيون ..
واما اصحاب الجلاليب البيضاء رجال كبار يعطون الارشادات لأبنائهم فى شئون الزراعة و يلاحظون اعمالهم معززين مكرمين , و للكبير تبجيل واحترام.
يلفت انتباهك البيوت النوبية المتناثرة على هذه الجبال و المرتفعات تعطى حنيه لقسوة الجبال بألوانها المختلفة , حولوا الجبال الى تحفة معمارية يشيد بها العالم تسر القلوب قبل النظر , و من الملاحظ ان كل البيوت تطل على النيل ابواب كبيرة بها نقوش مدروسة محفورة على الخشب تحكى قصصا واساطير و بها الدبه والمفتاح , و المتفا ح من الخشب على شكل رقم ستة و به سنتان اوثلاثه حسب التصميم وتكون داخل الضبة تعشيقات وتسمى (بالسوقاطه) فترفعها هذه السنون عندالفتح ولا يفتحها اى مفتاح اخر و هى نفس فكرة الاقفال المسوجرة حديثا , و اما الشبابيك لها احجام مختلفة و اشكال بديعة .
ان هذا المعمار الفريد يدرس فى جامعات العالم كعمارة مميزة و صديقة للبيئه وتسمى بالعماره الخضراء وسماها الدكتور /حسن فتحى شيخ المعماريين "ابنى من تحت رجلك " .
واما( الريس سمبو) يعرف اهل البلاد واسم كل بلد وكل نجع وله اصدقائه المقربون من اهل مهنته ..
وقبل غروب الشمس من الرحلة الممتعة امسك ( سمبو) بالدفه وابحر يسارا وهو ينادى الى اصدقائه (ووه شرقى , ووه شرقى ) ..
فخرج من وسط اشجار الفواكة المثمره شاب يافع قوى البنيان يلبس العراقى والسروال المميز .
فضل ياعم (سمبو) .... من اين انت آتى يا عم(سمبو) ؟ حمد الله على السلامه.
(سمبو) يتكلم العربية بلكنته النوبية , فسألته :
يا عم (سمبو) انت تجيد العربية ؟
قال : لااجيد العربية لأنها ليست لغتى الاصلية .
و قال (سمبو) : هل تفهمنى حين اتحدث بالعربية ؟
قلت له: نعم ...
وأكد هل تفهمنى جيدا حين أتحدث اليك ؟
قلت له : بالطبع وماهى المشكله لديك ..
فوضعنى هذا الرجل البسيط فى موقف لا احسد عليه .
سألنى :
لماذا تحترمون الخواجات حينما يتكلمون بلكنة يصعب فهمها ..
تكونوا مبسوطين للغاية و تقولوا "الخواجه بيتكلم عربى" , و تنظرون اليه بنظرة احترام وتقدير .
يا أستاذ احنا ثقافتنا نوبية , بنتكلم فى السياسة بالنوبي ,
وفى الثقافه (بردك) بالنوبى , و في الفن (بردك) بالنوبى , و اغانينا كمان.
و فى اثناء الحديث كان الريس (سمبو) يلملم فى الشراع لكى يرسوا على شط الجزيرة و انزل السقاله والتقاله ونزلنا من المركبه وربط المركبه على جزع من النخل , و استقبلنا الشاب (شرقى) بكل حفاوة وترحاب وعانق(سمبو) بحرارة .
لفت نظري وجود ساقية جميلة يدور بها بقرتين جميلتين ظاهرة فيهما عز الرعية رعياً طبيعياً ..
سمان يسر الناظر , يجرون الساقيه الكبيرة و كأنهم يتآنسون .
و مشينا على جدول مهذب تهذيب فلاح نشط وتحت شجرة سنط ضخمة بها ثلاث ازيار , و دون ان تشعر تذهب اليهما لكى تروى ظمأك سواء كنت ظمآناً أو غير ذلك ..
و تستنشق رائحة الروائح الذكية من مانجو و أشجار الموز .
و جلس العم(سمبو)على العنقريب الوحيد المصنوع من خشب السنط و حبال ليف النخيل , واتكأ ممددا جسده النحيل على وسادة محشوة من شعر الماعز , و جلسنا على سجادة من القماش ذات ألوان مختلفة و بسيطة و أحضر (شرقى) قدحين من القرع بهما لبن رائب كترحيب لنا و كان مذاقه رائعا , فتشعر فى الجزيرة أن كل الاشياء طبيعية , أوانى الاكل من الفخار(النوبى) .
و سألنا الاخ (شرقى) : كبف حالك ؟
قال : أحمد الله وأشكر فضله ....
هل انت مبسوط ؟
رد : و فوق الانبساط .
لاحظت فى لكنته انها مصرية فشعرت اننا دخلنا الحدود المصرية الى جنوب مصر ..
وما اسم هذه الجزيره ؟
اسمها ( آرتى شطاوى) .
فضحك الريس (سمبو) وقال :
بالله عليك انت مش عارف احنا فين !
فتنا الحدود السودانية و دخلنا حدود بلادنا المصرية.
ولذا لاتشعر بالفرق الا بفرق اللهجة فتدخل الى الحدود المصريه بانسيابية دون ان تشعر بفارق , فاللغةالنوبية هى اللغة سواءً فى شمال السودان او جنوب مصر ..
النوبيون السودانيون ينكلمون العربية بلكنة سودانية و النوبيون المصريون بلكنة مصرية . وهذا هو الفارق الوحيد لكى نعرف هذا من ذاك.
ومن الملاحظ عدم وجود بيوت فى الجزيرة كلها , و الجزيرة عبارة عن حظائر كبيرة و قليل من اسوار الطين اللبن بارتفاعات بسيطه , و بها ابقار وماعز و بعض الدواجن .
وارتفاع الطمى بالجزيرة من سطح الماء إلى ثلاثة امتار تقريبا , و استمتعنا بهذه الليلة فى (آرتى شطاوى) على انغام الكسر (الطمبور او السمسميه) مع تجمع من شباب هذه الجزيره يغنون المواويل النوبيه و شعرت فى هذه الليلة أن الجزيرة كادت ترقص حاضنة ضيوفها
فودعونا بكل حفاوة كما استقبلوننا .
و فرد الشراع (الريس سمبو) وامسك بالدفه مغادرا الجزيرة الى الشمال فى صباح تكسو على الاشجار قطرات الندى و خرير الماء و طارت امامنا الطيور كأنهم يودعون ضيوف الجزيرة .
اتجهت المركبه الى ناحيةاليمين قاصدة " البرالشرقى" ثم انعطفت الى اليمين قليلا لكى تسلك طريقها من منتصف النيل , وجدت (الريس)صامت لا يتكلم وينظر الى السارى محملقا عينيه وظهرت على وجهه بوادر تعجب وتركيز على الدفه وينظر الى اليمين تارة والى اليسار تارة اخرى , وانزل براحة كفيه وهو ساند الدفه برجليه وقال :
هل ترى لون الماء قد تغير ؟
نعم تغير ماء عكر لونه رمادى وشرب
وقال : الحمد لله (الدميره) وصلت ياولد ده الخير كله , الطمى والماء العكر ننتظره من السنه للسنه .
فالنوبيون يحبون النيل وكان النيل يقدس فى هذه البلاد ..
ولذا تجد البيوت كلها مفتوحه ابوابها وشبابيكها على النيل لياخذ كل انسان حقه فى رؤيه هذا الشيء البديع ...
.....يتبع .. الجزء الثاني ....