"من شيكان إلى توشكي"
دراسات حول اللغة النوبية
سأتناول هنا بعض الدراسات المتعلقة باللغة النوبية في السودان بصفة عامة ولغة الأجنغ ( النوبية الجبلية ) واتصالها باللغة العربية بشيء من التركيز، متطرقا لآراء بعض الباحثين واللغويين وعلماء الأجناس مثل : (استيفنسن 1984) ، (هيرمان بل 1974) ( انجلكا جاكوبي 1990) (بندر1978 ) ، ( تكر وبريان 1956 ) ، ( زيلرز 1949) ، (مكمايكل 1912م ) و(قرينبرج 1956) ، وغيرهم من الذين بحثوا عن عائلتها، وفروعها، وألفاظها ، ونحوها، وأصواتها ثم اكتشاف الصلة بين لهجاتها المرتبطة بتاريخ ما يسمى بالنوبية القديمة.
1- عائلة اللغة النوبية وفروعها :
تنتمي اللغة النوبية إلى العائلة اللغوية المسماة بالنيلية - الصحراوية. وعند التقسيمات الدنيا تصنف مع "لغات السودان الشرقية" التي اقترح تسميتها تريكر (B.G. Trigger1964:94) ، وقام قرينبيرج Greenberg : 1956 ) ) بتقسيمها ووضعها في شكل مجموعات بصورة عامة تحتوي على اللغات التالية ، و هي : النوبية Nubian، الباريا Barea ، تابي Tabi ، ميراريت Merarit، داجو Daju ، دينكا Dinka ونوير Nuer وهو يرى أن اللغة النوبية منفردة بخصائصها النوعية عن أخواتها في هذه العائلة . وقد تمت مراجعة وتعديل تقسيمه من قبل بعض الباحثين الذين سيرد ذكرهم . وعند تناوله للغات التي تستعمل في جبال النوبة قسمها قرينبيرج Greenberg : إلى ثلاث فئات هي:
ا – المتحدثون باللغة النوبية الجبلية.
ب - المتحدثون باللغات السودانية.
ج - المتحدثون باللغات اللاصقة .
هذا التصنيف الثلاثي أو المجموعات اللغوية الثلاث، جعل بعض المؤرخين ـ مثل مصطفى مسعد في كتابه ( الإسلام والنوبة في العصور الوسطى ). ـ يعتقد خطأ أن لمنطقة جبال النوبة ثلاث لغات فقط ، وذلك عندما ذكر قائلا : "إن النوبية واحدة من ثلاث لغات يتكلم بها الناس في جبال النوبة" ويقود مثل هذا الكلام إلى عدم تدقيق عن عدد لغات المنطقة . فالواقع أن لكل واحدة من هذه المجموعات الثلاث لغات عديدة مختلفة كما سنوضح ذلك أدناه .
إن ما قلته عن لغات العائلة النيلية الصحراوية يتضح بشكل أكثر وضوحا في التعديل الذي قام به بندر (Bender : 1989/1976) لتقسيم قرينبيرج 1971) : ( Greenberg وأورده رولين( 108 :1987 Ruhlen, Merritt) في المجلد الأول لتصنيف لغات العالم ، معددا أسماء لغات المجموعات اللغوية المستعملة في جبال النوبة في العائلة الفرعية " السودانية الشرقية East Sudanic ".
2 - تقسيم بندر:
شكل لغات السودان الشرقية في
العائلة النيلية – الصحراوية : تسمية تريكر
وتقسيم قرينبرج وتعديل بندر
المجموعة الأولى المجموعة الثانية المجموعة الثالثة
- سوغاني - النوبية - النيمانج
- اللغات الصحراوية - سرما - تيمين
- المابان - نيرا - تاما
- الفور - الجبال الشرقية - داجو
فعلى الرغم من هذه التقسيمات المشار إليها أعلاه فإن لغات منطقة جبال النوبة تعرف عموما بأسماء قبائلها وليس بعائلاتها. فالنوبية مثلا تسمى "أجنغو نا / با Aji-ngu-na/ba" لغة الأجنغ بصورة جماعية لكل القبائل النوبية ، ثم تخصص أسماء أخرى لكل فرع في القبيلة ، مثال ذلك : لغة دلنج ، كدرو ، كرتالا ، غلفان ، كاركو … ولكل واحدة منها لهجة باسمها .
وهكذا الأسماء في بقية لغات القبائل الأخرى، مثل : لغة برقو و فلاتة و برنو وهوسا… وبجانب تلك اللغات المختلفة ولهجاتها العديدة، توجد العربية السودانية المحلية كلغة مشتركة بين المتحدثين بتلك اللغات جميعا .
3- تقسيم لغات جبال النوبة إلى عشر مجموعات:
في تقديري أن تقسيم استيفنسن ( 1984 : Stevenson) للغات منطقة جبال النوبة يعد أكثر توفيقا ووضوحا حتى الآن ، ويتضمن تصنيفه عشر مجموعات ، هي:
كواليب Kawalib ، تقلى Taqali ، تلودي - مساكين Talodi - Masakin، لفوفا Lafofa ، تالودي – كادقلي Talodi- Kadugli ، داجو Daju ، تيمين Temayn، كتلا Katla، نيمانغ Nyimang ، و النوبية الجبلية Hill-Nubian .
ومن دون الدخول في تفاصيل وتقسيمات لغات العائلة النيلية – الصحراوية ولغات جبال النوبة نشير إلى أنها من أكثر العائلات مثارا للجدل controversial والاختلاف بين عدد من الباحثين ، نذكر منهم على سبيل المثال ، ديلا فوس (Delafosse : 1924) ، وتكر وبريان : 1956) Tucker and Bryan ) و قرينبرج Greenberg : 1971) ) و بندر (Bender : 1982 ) .
4 – امتداد اللغة النوبية :
أما عن امتداد عائلة اللغات النيلية - الصحراوية المنضوية تحت فرع لغات السودان الشرقية فقد جاء في كتاب ماريت رولين Merritt Ruhlen : "أنها تمتد من مالي غربا إلى مصر ، والسودان، وإثيوبيا، وكينيا، وتنزانيا في الساحل الشرقي لأفريقيا، وهي توجد في شكل جزر لغوية " islands " محاطة باللغات الأفرو- آسيوية ، وبلغات عائلة النيجر- الكنغو. ويقدر عدد لغات الفرع بحوالي أربعين (40) لغة، أما عدد المتحدثين بها فيقدرون بأحد عشر ( 11 ) مليونا. وتعد لغة كنوري kanuri ، و لاو Luo والنوبية Nubian من أهم لغات هذه المجموعة التي يقدر متوسط المتكلمين بكل واحدة من اللغات الثلاث الأخيرة بمليون نسمة .
4 – صلة النوبية ببعض لغات أوربا الشرقية وغربي آسيا :
أختتم هذا العرض الذي تناولت فيه تقسيمات عائلة اللغة النوبية وصلتها مع غيرها من اللغات بتقديم رأي جدير بالبحث ، وهو ما قاله في بحث لتريكر B.G. Trigger ذكر فيه مقارنة أجراها مبينا فيها اتفاق عناصر نحوية موجودة في لغات السودان الشرقية "عشرين عنصرا نحويا" ؛ جلها من النوبية القديمة في جميع المجالات المتعلقة بتكوين الكلمة، والاشتقاق ، ولواحق الأسماء، والأفعال مع لغات العائلة اللغوية المسماة : بالأورالية الألتية الانجيرالية التي تتضمن اللغات التالية "، وهي:
التركية القديمة Old Turkish ، لغة الفين Finnish ، اللغة المنغولية Mongolian ، اللغة الأورالية الالتية Uralo- Altiac الانجيراليةIngrelian ، لغة الفينو أوجارية Fenno - Ugric ، واللغة الوجولية Wogulian واللغة الهنغارية Hungarian. وتقع جل هذه اللغات في آسيا وأوربا الشرقية1.
5 - ظهور النوبية وانتشارها :
بعد أن تناولت الحديث عن العائلة اللغوية النيلية – الصحراوية، وتكلمت عن فرعها المسمى بلغات السودان الشرقية متطرقا إلى لغاتها وأماكنها وصلاتها ، أنتقل بالحديث إلى اللغة النوبية التي تعد من أهم ثلاث لغات ذلك الفرع ، من حيث ظهورها وانتشارها ونقدم بعض ما قيل عنها من آراء بعض اللغويين والباحثين .
ومن رأي زيلرز Zyhlerz : " أنه ظهر ما يعرف باللغة النوبية التي لا هي حامية ولا هي سامية (Non- Himato- Sematic ) من داخل الأراضي الأفريقية إلى الأراضي المصرية . وبمرور الزمن حلت محل اللغة المروية واستخدمت بدلا منها في الممالك المسيحية إلى دخول الإسلام" ، "ويضيف آدمز Adams , W.Y. قائلا: "إنها تستخدم إلى يومنا هذا ". يتضح من حديث زيلرز أن الفصل بين اللغتين يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة.
ويذكر استيفنسن نقلا عن زيلرز قوله "إن النوبية كانت لها نظام هجائي يقوم على ألف باء اللغة الإغريقية القديمة ". ويقدر الفترة التي استعملت فيها النوبية القديمة في ممالكها ما بين القرنين السادس، والثالث عشر الميلاديين (6-13)، ويرى أيضا "أن النظام النحوي الذي وضعه زيلرزZyhlarz سنة 1928 يمكن أن يكون أساسا لها" .
ويظهر من حديث استيفنسن كأن النوبية القديمة قد انتهت ، و في ظني أنها مستمرة حتى اليوم بدليل ما نبحث فيه ، وبدليل ما ذكره آدمز أعلاه أنها تستخدم إلى يومنا هذا، فلا أحد يستطيع نفي أن تكون إحدى اللغات النوبية الحالية امتدادا لها ، وربما المقصود من كلامه ، هو نهاية استعمال شكلها الكتابي وذاك أمر نوافقه عليه .
6 – امكانية وضع لهجات اللغة النوبية تحت مسمى واحد :
يشير سيبوك ( 273:1990) الى امكانية وضع اللغات النوبية بفصائلها تحت اسم واحد هو اللغة النوبية ، التي ظهرت مع اندفاع الهجرات القادمة من الجنوب مع النيل (ومن الغرب) عندما ضعفت مملكة مروي وشارفت على الانهيار ، في أوائل القرن الأول الميلادي". ويتفق هذا مع رأي هيرمان بل الذي سيرد ذكره.
7 – النوبية في العصور الوسطى :
يرى شيني ( 1974 : P.L. Shinnie) احتمال أن : " اللغات التي كانت تستخدم في السودان في العصور الوسطى : هي النوبية والقبطية والعربية وربما الإغريقية ". وقد وجدت جميعها مسجلة في بعض الألواح جنبا إلى جنب مع اللغة النوبية التي عثر عليها في البلاطات الملكية وعلى شواهد القبور .
ويقول كذلك :
"وربما تكون اللغة البجاوية قد استعملت في ذلك الوقت بصورة قليلة بجانب بعض اللغات الجنوبية، ومن الجائز أن تكون اللغة المروية التي فقدت صورتها المكتوبة و(المنطوقة) قد استعملت كلهجة في بعض مناطق وادي النيل. وبالرغم من العثور على مخطوطات ما بين القرنين الثامن إلى الرابع عشر الميلاديين ( 8 – 14) مكتوبة باللغة النوبية القديمة والإغريقية والقبطية في مناطق نوبة الشمال ومصر منذ ذلك العهد، ولكنها تفتقر إلى بحوث ودراسات واسعة. كما يحتمل أن تكون النوبية قد احتفظت بشكلها الكتابي عند رجال الدين دون غيرهم ، ولغة اتصال منطوقة فقط لعامة الناس في تلك الفترة " كما هي حالها الآن.
8 - الحرف النوبي :
يظن أرمبرستر (47: 1974 Armbruster) "أن اللغة النوبية اتخذت شكل الحرف القبطي المأخوذ من ألف باء اللغة الإغريقية في كتابتها". ولتبرير الصلة بينهما قام بجمع قائمة تحتوي على خمسة عشر كلمة من كلمات اللغة الدنقلاوية الحديثة، ليدلل بها تأثير الإغريقية على اللغة النوبية القديمة قائلا : " إنها مستعارة منها ". وإن كان هذا لا يعني تعريفا بها، ورغم عدم اتفاقي فيما ذهب إليه ليقيني أن اللغة النوبية كانت لها حروفها الخاصة بها ( محمد جلال هاشم 2004) ، فقد أورت حديثه لأنه يوضح تداخل اللغات الثلاث في الكتابة في فترة من فتراث التاريخ.
وفي ظني أن ما قام به عبد القادر محمود عبدالله (1974) من محاولة مقدرة لحل حروفها أمر يحتاج إلى مراجعة ، فقد قدم كلود (2004) في بحثه في المؤتمر التاسع لمنتدى اللسانيات النيلية الصحراوية مزيدا من الأمثلة المشتركة بين اللغتين المروية والنوبية لتأكيد كونهما من فصيلة واحدة في عائلة لغات السودان الشرقية.
9- مخطوطة نوري :
تم العثور على وثيقة مخطوطة باللغة النوبية في نوري طبعها قريفيث1 Griffith مقدرا لها عام 1080م . ومن رأيه أن اللغة النوبية كانت مستعملة كلغة للتجارة أو في القضاء وفي الحكم . وفي تقديري أيضا إذا ما تمت دراسة هذه الوثيقة بصورة فاحصة قد تكشف كثيرا من الحقائق التي يجهلها الباحثون عن اللغة النوبية.
10 - صينية ملكية مكتوبة بالنوبية:
وقد عثر كذلك على صينية (لوح) ملكية مكتوبة باللغة النوبية القديمة واللغة الإغريقية في مدفن ملكي بمنطقة وادي النطرون ـ في مصر ـ طبعت منها ثلاثة نصوص في ذكرى الملك جورج ملك بريطانيا، وكذلك نص آخر عبارة عن وثيقة قانونية بالنوبية وكذلك رسوم مفسرة وعليها تعليق بالنوبية والإغريقية معا. كل هذا يعطي دليلا لكونها كانت لغة رسمية، وقومية أكثر من غيرها كما يقول بذلك فرانسيس جريفيث(1928) لأنها استخدمت في السجلات الملكية دون سواها وقتذاك. ومعلوم أن وادي النطرون يقع في قلب مناطق اللغة النوبية التي يفترض ظهورها فيه.
11- نصوص مسجلة باللغة النوبية في قصر إبريم:
وجدت نصوص مسجلة باللغة النوبية منها نص في قصر إبريم في شمال السودان، يعد أقدم نص مكتوب بلغة محلية في السودان عثر عليه حتى الآن، إلا أنه لم يجد اهتماما كافيا من الدراسة والبحث كما ذكر قريفيثGriffith . و يبدو أن ندرة الحصول على نصوص مكتوبة بالنوبية ترجع إلى قلة الاهتمام بها، أو لصعوبة قراءة ما عثر عليه منها أو فك رموزها 2 .
12 – رأي حول أصل النوبية شمال السودان:
إذا استثنينا رأي مكمايكل ولبسوس القائل بمجيء نوبة الشمال إلى جبال النوبة من دون الإشارة إلى أصل منبعهم ، فإن ما سقته من آراء ووجهات نظر لبعض الباحثين والعلماء تتفق على أن لغتهم ظهرت في غرب أفريقيا، أو في وسطها (كردفان ودارفور ) وانتشرت مع سريان النيل حتى بلغت جنوب مصر . وإن كان هناك ثمة اختلاف في الرؤية بين تلك الآراء فإنه يدور حول محور الوقت الذي استخدمت فيه اللغة النوبية كلغة كتابة ، وكذلك حول زمن استخدامها كلغة مكتوبة ومنطوقة معا. ولا يوجد اختلاف البتة من حيث أنها ظلت باقية ومستخدمة ، يتكلم بها أهلها إلى اليوم في بعض بقاع السودان ومصر .
ومع أن الرأي القائل بظهور اللغة النوبية من غرب أفريقيا أو من وسط السودان (كردفان ودار فور ) لم يحدد من أين جاءت " إلى داخل الأراضي الأفريقية"، إلا أنه متفق عليه عند أغلب الباحثين، مثل : استيفنسن وسيبوك وبندر وغيرهم. وإن كنت من أنصارهم إلا أنني أرى أن اللغة النوبية تحتاج إلى دراسات، وبحوث متخصصة ومكثفة للإجلاء عن مكنونها وحقيقتها ، وللإجابة بصورة علمية عما يدور حولها من تساؤلات ، هل هي حامية أم سامية أم غير ذلك ؟ .
بعد هذا العرض المبسط عن اللغة النوبية سأقدم فيما يلي بعض الدراسات المتخصصة التى قام بها نفر من الباحثين اللغويين وعلماء علم الأجناس وغيرهم عن اللغة النوبية.
13 – مكانة النوبية بين اللغات السودانية الشرقية :
إن دارسة ماريت رولين Merritt Ruhlen ، التي جاءت في "كتاب المرشد للغات العالم " ، تتناول امتداد عائلة اللغات النيلية - الصحراوية المنضوية تحت فرع لغات السودان الشرقية، فقد أورد عنها ما يلي: "أنها تمتد من مالي غربا ، ومصر شمالا ، والسودان ، و إثيوبيا ، و كينيا، وتنزانيا في الساحل الشرقي لأفريقيا . وهو يتفق مع ليونيل بندر في تقسيماته لفرع عائلة " اللغات السودانية الشرقية " ، ومخالفا بذلك قرينبرج الآنف ذكره أعلاه.
إن قيمة دراسة قرينبرج ، و بندر ، وماريت ، تبين لنا أن اللغة النوبية جزء لا يتجزأ من اللغات السودانية الشرقية بل هي من بناتها الأساسيات ، ولها وزنها وأهميتها وذلك لحجمها المتميز عن بقية لغات المجموعة، وكثرة للمتكلمين بها مقارنة بغيرها على مستوى أفريقيا. ومع ذلك في تقديري أن الإحصائية وضعت اللغة النوبية في نطاق اللغات المعرضة للخطر، والتي تحتاج إلى دراسة جادة تبين حقيقتها قبل فوات أوانها، وهذه الدراسة المتواضعة طرق لباب البحث فيها .
15- دراسات في لغة الدلنج وكتابتها :
يعتبر ما قام به الأب دانيال كزوسر من أهم الأعمال التي تناولت دراسة لغة الأجنغ وهي دراسات شملت : القواعد النحوية للغة الدلنج عام 1920م، قال عنها استيفنسن (82 : 1956) إنها أول دراسة نحوية صحيحة للنوبية الكردفانية رغم ما ينقصها من بعض جوانب الأصوات الحركية، وعدم شرح بعض أصواتها ، وقد قام بعرضها مينهوف ودركسل (1919/1920) كما ذكرت انجلكا(73: 1993). وقد قام كزوسر أيضا بتسجيل بعض نصوص لغة الدلنج النوبية (الأجنج) في الأعوام 1926 و1927 و1929 م ، ثم كتب ألفاظها عام 1930م .
إن أهمية دراسات كزوسر الخمس في لغة الدلنج تقوم على أساس أن الدلنجاوية تعد لهجة متداخلة مع لهجات أخرى ـ بنسبة مئوية تزيد عن 93 % ـ يقول عنها استيفنسن ( 219: 1984 ) إنها : مجموعة لغات متقاربة. Stevenson
(The Nubian languages of Kordofan form a group of closely related dialects).
ويرى الباحث " أنها توأم لأربع منها " وأنه يمكن الإفادة من دراسة أي منها في دراسة الأخريات ، وتلك اللغات المعنية، هي :
الكدراوية Kadaru ( kodun-mba) ، ولغة الغلفان Gulfan (winki-mba ) ، والدابراوية Debri (debri-mba) ولغة الكدر Kudur ( kwashu-mba )، وقد أوردت أسماءها بنطقها العربي والنوبي معا، للدلالة على التغيير الذي اعتراها. وتعتبر انجلكا وبريمة هذه اللغات ـ في ورقتهما البحثية عن لغة الكدرو ـ "أن دراسات كزوسر تعد من الدراسات النادرة ، بل الوحيدة ، التي صدرت عن أي من هذه المجموعة اللغوية، لأن أغلب لغات المجموعة لم يتم تسجيلها، وتوثيقها إلا عن طريق جمع بعض مفرداتها اللغوية فقط ".
وعلى الرغم من عدم العثور على ترجمة عربية، أو إنجليزية، لدراسات كزوسر القيمة، إلا أن هذا البحث مدين له باعتبار أن ما قام به، يعد أول تجربة من نوعها، استفاد منها الباحث في رسم بعض حروف، وأصوات لغة الكدرو ، وهو جهد مقدر ، يضاف إلى أبحاث المبشرين الذين لا يمكن إنكار دورهم ، وجهودهم في البحث عن النوبيين الجبليين ، التي تناولت الكثير من تراثهم ، متمثلا في لغاتهم ، وعاداتهم، وتقاليدهم، وعن قبائلهم ، أو في أبحاث أخرى عنهم في علم الأجناس. وكل هذا ساعدني كثيرا، وسوف يساعد في إجراء مزيد من البحوث المتخصصة عن اللغة النوبية الجبلية ، أو غيرها، كما هو شأن هذا البحث ، أو حفظ تلك الدراسات ـ على أقل تقدير ـ للإفادة منها في المجالات العلمية الأخرى.
16- دراسة النسبة المئوية في تقارب فصائل اللغة النوبية :
بلغت الدراسات اللغوية مرحلة متقدمة من البحث في بعض الجوانب ، فعلى سبيل المثال ، تناولت شبكة المعلومات الآلية المتعلقة بأفريقيا عدد لغات السودان البالغ "قدرها 142 لغة منها 10 لغات لا تستعمل الآن" ، وما بقى منها يستعمل بدرجات متفاوتة بما في ذلك النوبية وفروعها.
فقد أجرت الشبكة دراسة لمعرفة " النسبة المئوية" للتقارب بين بعض فصائل اللغة النوبية في السودان ، وذلك عن طريق تحليلها تحليلا علميا، للتدليل بها على أنها لغة واحدة متفرعة، ويبدو لي أن الاختلاف الذي يلاحظ بين بعض فروعها، ناتج من عوامل التغيير اللغوي لدرجة أنها غدت للبعض وكأنها لغات قائمة بذاتها مع أنها لهجات للغة واحدة هي النوبية . وهذا أمر ليس مستبعدا، بل هو في حكم المؤكد ، وذلك حسب الدراسات والبحوث التي تناولتها. واللغات التي أجريت عليها تلك الدراسة ، هي :
1 - لغة البرقد ( Birked/Birgid ) في شمال دارفور، و شرق جبل مرة ، منطقة الرزيقات، وشمال مدينة نيالا ، وفي شمال كردفان بجنوب الأبيض (النسبة المئوية مع الكدراوية 60 % ومع الميدوبية 51 % ) .
2 – لغة الميدوب : بين ليبيا والسودان ، نسبتها مع لغة ( البرقد 51 % ).
3 - لغة الدلنج ( Delen / Warki / Warkimbe ) في مدينة الدلنج، وحواليها بما في ذلك الكُدر ( النسبة المئوية مع دابري 94 % ومع الكدرو 93 % ) .
4 - لغة الغلفان (Ghulfan / Gulfan / Winci/ Wincimbe ) جنوب مدينة الدلنج على بعد حوالي25-30 ميلا ( تسمى أيضا بلغة كدروـ غلفان،ونسبتها مع الدلنج 93%) .
5 – لغة دابري جنوب مدينة الدلنج ( نسبتها مع الدلنجاوية 94 % ومع الكدراوية(93%)
6 – لغة الكدرو : (Kadru / Kadaro / Kadero / Kaderu / Kodoro / Kodhin / kodhinniai) ،شمال جبال النوبة، وتقع بين الدلنج ودلامي (كدرو ـ غلفان) (النسبة المئوية مع الدلنجاوية 92% ومع الدبراوية 87% ومع البرقدية 60 % ).
إن الغرض من التطرق لهذه الدراسة القيمة ، هو أن ظاهرة التفاوت بين لغتين من أصل واحد ؛ أمر لا يحدث إلا بالتغيير الذي لابد له من "مؤثر لغوي داخلي، أو اجتماعي خارجي"كما يقول بذلك لابوف( 4 : Labov 2001 ) ، فتغيير لغة الكدرو إلى اللغة العربية، مثلا يعد أحد تلك المظاهر، ويمكن أن يشكل الاختلاف بين بنات اللغة الواحدة دراسة لغوية أفقية في شكل لهجات أو لغات، وعلى الرغم من أن الكثير من فصائل اللغة النوبية، لم تجر لها دراسات نسبة التقارب المئوية ، فالأمل معقود على بحثها لمعرفة أوضاعها، وكشف تقاربها، ولاسيما أن مثل هذه الدراسات تساعد على معرفة حقائق أكثر لفصائل اللغة النوبية .
فإذا كان هناك مأخذ على هذه الدراسة الخاصة بنسبة التقارب المئوية، فهو اختلاف رسم حروف أسمائها وبعض أصواتها، الذي يعود أساسا إلى فقدان الشكل الكتابي للغة النوبية. كما أن الاختلاف الملحوظ في النسبة المئوية بين بعضها ، سببه التغييرات التي مرت بها كل لغة أو لهجة على حدة ، لتمددها، وتباعدها، وانتشارها على رقعة واسعة، وانحلال ما كان يربط بينها من رباط، كتوحيد أصواتها، ورسمها. وفي تقديري ، أن احتمال اختفاء بعضها أمر وارد قد يرجع إلى تلك الأسباب أو لغيرها.
17 - أبحاث عن تقارب المجموعات اللغوية النوبية :
اقتصرت دراسات روبن ثلوال ( a1979 ، 1982 م ) Robin Thelwallفي البحث عن اللغة النوبية، بأسلوب مغاير من أسلوب شبكة المعلومات الآلية ، بهدف الوصول إلى نتيجة عامة بصورة علمية دقيقة ، وكان هدفه هو التوصل إلى معرفة نسبة الصلة بين مجموعات اللغات النوبية العديدة ، ومدى درجة تقارب كل مجموعة بأختها كمجموعة وليس كأفراد مثلما فعلت الشبكة الآلية. وقد اعتمد ثلوال في دراسته على طريقة تحليل الإحصاء اللفظي lexicostatistics ، مستخدما في ذلك ذخيرة لغوية تتكون من مائة كلمة أساسية ، ليحقق بها درجة اشتراكها بين جميع لغات الفصائل اللغوية النوبية ، وتصنيفها حسب اشتراكها في تلك الألفاظ ، وكان غرضه من وراء ذلك التحقق من نتيجة الدراسة، التي توصل إليها زيلرز عن "حقيقة صلة اللغات النوبية ". وتمكن روبن ثلوال Thelwall من تصوير العلاقات الداخلية بين فروع اللغة النوبية القديمة في شكل عائلة متفرعة محققا بذلك رأي زيلرز الذي سأوضحه في الصفحات القادمة.
شكل يوضح صلة لغات عائلة النوبية القديمة
روبن ثلوال : a 1978 م .
اللغة النوبية القديمة
لغة النوبيين
الدنقلاوية الدبراوية الكدراوية البرقدية الميدوبية
بعد دراسته وتحليله لمائة كلمة أساسية عن طريق الإحصاء اللفظي lexicostatistics وضع ثلوال المخطط أعلاه مبينا فيه مدى تقارب اللغات النوبية بالنوبية القديمة .
"Tree diagram based on group average analysis of 100 – item list Thelwall 1978a )"
إن الغرض من دراسة النسبة المئوية ، والقرابة الجماعية لفصائل اللغة النوبية، هو توضيح يهدف من دون شك إلى معرفة المزيد عن صلتها في صورتها الفردية والجماعية معا ، لأن ذلك يساعد الباحث في الإفادة من أية دراسة أجريت لأي منها، وإن الاختلاف الملحوظ بين بعضها لا يعدو أن يكون أمرا طبيعيا ، وتغييرا يحدث للغات بصور متفاوتة ، حتى في داخل المجموعة اللغوية الواحدة، مثل مجموعة النوبية الجبلية. ومع هذا التغيير تظل اللغة مرتبطة بأصلها إذا بقي منها شيء مما يساعد على دراساتها المستقبلية .
18- بحث حول لغة فاديجا وتسمية اللغة النوبية :
تناول هيرمان بل ( 109 : 1974) Herman Bell في بحثه ، لهجة فاديجا (Fadicca-Mahas ) في بلاد المحس بمنطقة النوبة الشمالية ، مناقشا ما يسببه اسم "النوبية" من إشكاليات، ويتضح من حديثه اختلافه مع كل من سبقه في هذا الصدد ، مثل راينش (1879م) ، ولبسوس (1880م) ، ذاكرا أن مصطلح النوبية Term Nubian أوسع بكثير مما يظن البعض، و يصعب إطلاق اسم محدد "كالمحسية " على سبيل المثال لتعني اللغة "النوبية " لأنها مصطلح شامل . وفي رأيه أن النوبية تشير إلى عدد كبير من اللغات ، هي : الكنزية ـ الدنقلاوية ، والنوبية الجبلية ، والنوبية في دارفور من جهة ، ومن جهة أخرى فإن إطلاق اسم الحلفاوية ، أو المحسية عليها جميعا يضيق من مجالها كثيرا، لقصرها على منطقتين محدودتين .
ويخلص هيرمان من دراسته إلى نتيجة هي : " أن النوبية اسم أشمل من غيره من بقية الأسماء " ، ونحن من ناحيتنا نتفق مع ما قاله ، بأن مصطلح " اللغة النوبية " انبثقت منه لغات أو لهجات متعددة. وهذا البحث " تغيير لغة الكدرو إلى العربية " يتناول حال واحدة منها في جبال النوبة.
وفي هذا السياق نشير إلى ملاحظة أراها مهمة وضرورية، وهي تقسيم اللغة النوبية إلى قسمين، هما النوبية النيلية Nile Nubian " ، ويطلق على الشمالية، والمصرية، و"النوبية الجبلية Hill Nubian " لتلك المتكلم بها في جبال النوبة ، يقول استيفنسن إن الغرض من ذلك هو للدراسة. وفي ظني أن هذا التقسيم لا مبرر له، لشيء واحد هو أن اللغة هي نفسها ، سواء كانت في جبال النوبة، أم كانت في مكان آخر ، فاللغة الإنجليزية على سبيل المثال في كل أنحاء العالم : أمريكا، أو بريطانيا، أو استراليا، تسمى لغة إنجليزية. ونفس الشيء ينطبق على اللغة العربية رغم تعدد من يتحدثونها في بلاد متفرقة من العالم، فما الذي يمنع أن تعامل النوبية مثلهما ؟.
وهناك ملاحظة أخرى عن اللغة النوبية، وهي تسميتها بأسماء قبائلها مثل البرقدية، والميدوبية، وهو أمر ليس له ما يبرره، ولكل ما ذكرته فإنني أتفق مع هيرمان بل، بتوحيد تسمية اللغة النوبية، حتى ولو كان ذلك من أجل الدراسة، فيمكن الإشارة إلى تحديد مكانها الجغرافي بدلا من تسميتها بقبائلها .
19- دراسة ميدانية في لغة هبيلا (الكدرو) :
إن المسح اللغوي الذي أجري بواسطة جرنود Jernud في هبيلة (إحدى مناطق الكدرو) في مرحلتين ، الأولى عام 1974 م ، والثانية عام لهيرمان بل 1978م ، يعتبر هذا المسح دراسة فريدة من نوعها لهذه اللغة، ودعامة هامة لبحثنا، وهو في تقديري تأكيد لفرضية التغيير اللغوي الكدراوي إلى اللغة العربية ومقياس لها . فالدراسة تحدد وضع النوبية الكدراوية مع اللغة العربية، ومكانتها بين المتحدثين بها، وقد توصل فيها الباحثون إلى نتيجة فحواها، "أن الكدراوية المستعملة في منطقة هبيلة قد فقدت سيطرتها بين أهلها المتحدثين بها ، وأن الأجنغ لا يعانون مشكلة في التحول من لغتهم إلى اللغة العربية " ، وهذا يؤكد أيضا ما ذكره استيفنسن ( 1984) بالكدراويين "أشباه المستعربين"، بمعنى أنهم أخذوا بعض صفات المتحدثين باللغة العربية ، بالإضافة إلى استخدامهم لها من دون صعوبة. ويعطي هذا مؤشرا قويا لما قلناه عن تغيير الكدراوية إلى اللغة العربية، أو تبيين لمرحلة من مراحل تغيرها .
و تعود أهمية البحث كذلك إلى ما تمخض عنه آنذاك من حقيقة مؤداها أن التغيير اللغوي الاجنغاوي يحدث أحيانا خارج نطاق التعليم والتعلم المدرسي ، فقد بين المسح اللغوي أن نسبة التعليم في المنطقة في فترة إجراء المسح كانت متواضعة جدا ، حيث ذكر أن واحدا فقط من أصل خمسة أولاد في سن المدرسة يلتحق بها، وأن واحدة من كل تسع بنات في عمر التعليم تدخل المدرسة، ومع ذلك فإن التكلم بالعربية آخذ في النمو المطرد. وهذا يشير إلى أهمية الأثر الاجتماعي، وربما وجود مؤثرات أخرى أقوى على الأجنغ في التحدث باللغة العربية، وتعلمها أكثر من أثر التعليم النظامي عليهم، ويشكل هذا أحد أسباب البحث ، الذي نود معرفته عن طريق البدائل الاختيارية في مجالات التغيير اللغوي الاجنغاوي . وختاما، فإن نتيجة هذا المسح الميداني برهان قاطع بتغيير اللغة الكدراوية إلى اللغة العربية.
20- دراسة حول أصوات لغة البرقد:
من الدراسات الجديرة بالاهتمام عن اللغة النوبية في السودان تلك التي قام بها عشاري أحمد محمود ( 1974) في أطروحة الماجستير، باحثا ومنقبا عن لغة البرقد النوبية بعنوان "Phonology of a Dieing Language The " . فقد جاء فيها أنه بحث عن من يتحدث هذه اللغة آنذاك، ولم يجد سوى امرأة مسنة كانت تعيش في جزيرة أبا القريبة من مدينة كوستي، حيث استطاع أن يجمع منها بعض الكلمات في هذه اللغة. ومن الألفاظ التي أوردها يتضح وجود تشابه بل تطابق مع بعض ألفاظ لغة الكدرو مثل كلمة طير “ kondu-ndu” ، وفي تقديري أن دراسته تلك تعد من الدراسات الرائدة في مجال اللغة النوبية ينبغي الإفادة منها.